كان عام 2005 هو العام الذي تصاعدت فيه مطالب التغيير، وشهدت فيه مصر في عهد نظام مبارك حركة غير مسبوقة في الشارع من أجل إصلاح النظام السياسي ومنعه من ارتكاب خطيئة التوريث، وشهدت البلاد مواجهة بين النظام والمعارضة التي حركت ركودها حركات اجتماعية مثل كفاية وغيرها، كان موضوع هذه المواجهة تعديل المادة 76، ثم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والصراع من أجل استقلال القضاء، كان هذا العام هو اول أعوامي في دراسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وقد مسني الحماس الذي خلقته كل هذه الأحداث التي أثبتت قدرة النظام الفائقة على احتواء مطالب التغيير ليصبح أكثر قدرة على القمع وهي صفات لصيقة بنمط الديمقراطيات الورقية. بهذه المهارة مرر النظام تعديلات 2007 الممهدة للقضاء على الجمهورية، وهو ما أثبت انسداد أفق التغيير السياسي. وأثبتت قطاعات من المجتمع أنها غير راغبة في التغيير أو تخشى أي تغيير قد يفتح الباب على ما لا تستطيع تداركه، ألقيت باللوم على المجتمع الأولى بالإصلاح، فكل تغيير سياسي يجب أن يسبقه تغيير اجتماعي يحافظ عليه ويعمقه؛ كانت هذه الفكرة راسخة أن النظام ليس فاسدًا فحسب بل هو مُفسد، وقد استطاع أن يدمج قطاعات عريضة من الشعب داخل هذه المنظومة أي أنه وسع من قاعدة مصالحه الاجتماعية وصارت هذه القطاعات في خشية شديدة من أي تغيير قد يطيح بهذه المصالح. وهو ما أطلقت عليها "مصالح صغرى"
مع نجاح الثورة في تونس ووصول تباشيرها إلى مصر، خشيت أن تكون هذه المصالح الصغرى هي العائق أمام اندلاع الثورة في مصر، فقد أعقب الإحباط السياسي حركات احتجاجية واسعة وإضرابات عمالية مستمرةـ كان أشهرها وأعظمها إضراب المحلة 2008 غير أنها حدثت كما لو كانت في جزر منعزلة فلم تفت في عضد النظام الذي زاوج بين التعامل الأمني والاقتصادي معها، ولم تزده إلا طغيانًا ولم تستطع المعارضة أن تدعمها سياسيا أو أن تدفعها نحو أن تكون نواة لحركة اجتماعية عريضة تدفع النظام نحو الإصلاح أو نحو السقوط، وما حدث هو تخلي تنكر اجتماعي وسياسي لها. وفي الحقيقة لم يكن المجتمع بهذا الموات الذي تصورته، فهناك ثقافة تتكشل تحت هذا الغطاء السميك من الاستقرار، ويحمل جيل جديد أنتسب إليه وإن لم أشعر بما يحمله من إمكانيات للتغير ونقل المعركة مع النظام من الإصلاح المحدود إلى التغيير الشامل. وما إن سالت الدماء وسقط شهداء حتى أصبح الالتحام بجسد الثورة أمرًا تحتمه المسؤولية والأخلاق، شاركت في الثورة بصفة فردية وتركت في الـ18 يومًا ما تصورته من نظريات جامدة غير أن آملت أن يكون هذا الذي لمسته في الميدان بداية ثورة اجتماعية حقيقة، غير أن الطريق إلى هذه الوجهة كان ولا زال بعيدًا.
الثورةُ نصٌ تتعدد قراءاته وتخلق كل قراءة له معانٍ مختلفة، والثورة المصرية في إحدى معانيها هي ثورة جيلية، قادها جيل من الشباب وكان وقودها في مواجهة جيل آخر يأبي أن يترك قبضته على مقدرات البلاد، ومنذ بداية الثورة التصق بها أنها ثورة الشباب، وظهر مصطلح شباب يناير وغيره من المصطلحات الشائعة إعلاميًا وسياسيًا مُعبرة عن شبابية الثورة، غير أن هذه الثورة في علاقتها بالشباب لا تختلف كثيرًا عن أي ثورة شاملة سابقة أو لاحقة، فالأجيال الجديدة تحمل رؤى ومطالب تختزن ضرورة "التغيير الجذري" وتجديد المجتمع بما يشكل انقطاعًا عن رؤى الأجيال السابقة عن علاقاتها بالسلطة والدولة وبناء المجتمع.
كان الفشل السياسي الذي أشرتُ إليه سابقًا هو تعبيرٌ عن فشل الأجيال اللاحقة المسيطرة على الحياة السياسية سواء داخل النظام أو في المعارضة العاجزة عن تطوير أي استراتيجية للتعامل مع المجتمع، والقابلة بأي مساحة ولو صغيرة يمنحها النظام لها للحركة والفعل. كان الخروج من أسر هذا السيناريو يعني أخذ زمام المبادرة من النظام ثم بإزاحته، وهذه الاستراتيجية كانت تستلزم فكرًا جديدًا وثوريًّا. وبالفعل جسدت الحركات الشبابية هذه الاستراتيجية التي أشعلت فتيل الثورة.
صُنفت الحركات الشبابية حاملة الثورة أنها حركات اجتماعية، حيث إن السيولة واللامركزية الشديدة هي سمتها الرئيسية وهي المنطق الحاكم لحركتها، فنحن أمام ائتلافات ومبادرات وأحزاب ذات عناصر شبابية في أغلبها وهي متجاوزة للطيف الأيديولوجي، وبعيدة عن التصنيف السياسي، و معولمة في ثقافتها وأدواتها ومتشربة لأفكار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فهي حركات تغيير راديكالي جسدت مطالبها وجهة الثورة المرتبطة بتغيير بنية الدولة وسياستها الأمنية والاقتصادية والديمقراطية، وهو ما عبر عنه شعارات الثورة "العيش والحرية والكرامة الإنسانية".
قادت هذه الحركات اعتصام ميدان التحرير وحركة الاحتجاجات في الشارع خلال الـ18 يومًا، وشكل ما عرف بائتلاف شباب الثورة، والمكتب الإعلامي لها الذي كان معبرًا عن مطالب الميدان التي لم تقبل التفاوض، وانتهت هذه المرحلة بإسقاط مبارك رأس النظام وتحرر المجال العام من القبضة الأمنية، وخلق نواة لنظام جديد، كانت الفترة التالية لذلك الانتصار مثاليةَ لهذه الحركات التي تولدت من رحم الثورة كي تنظم نفسها وأن تحتل المجال العام، غير أن ذلك لم يحدث.
توحدت الحركات الشبابية بالثورة، واعتبرت نفسها صاحبة الحق الوحيد في التعبير عنها، ولعبت الآلة الإعلامية الشرسة دورًا سلبيا في أيقنة ظاهرة شباب الثورة واستهلاكها أو حتى ابتذالها، بل أنها استطاعت أن تسحب قيادات هذه الحركة ووجوهها البارزة من الشارع والمساحة الاجتماعية المحررة لتكون أسيرة الاستديوهات والفضائيات والبرامج الحوارية التي صنعت من بعضهم نجومًا، وأصبحت هذه النجوم مشغولة أكثر بالترويج لنفسها أكثر من القيام بمهمتها الرئيسة وهي " تثوير" المجتمع.
لم تكن الثورة ثورة شعبية بالمعنى الحرفي فهناك قطاعاتُ عريضة وعميقة في المجتمع رغم سخطها من النظام لم تشارك في الثورة وربما كانت معادية لها، كانت هذه القطاعات هي الأولى بمجهود الحركات الشبابية فكان عليها أن تجعل من الثورة ثورة اجتماعية وذات مضمون أعمق من مجرد شعار إسقاط النظام؛ من خلال تغيير ثقافة المجتمع ومفاهيمه عن المصالح وحدودها وتثوير قيمه، وجعله محركًا مستمرًا للمطالبة بتحقيق أهداف الثورة. غير أن هذه الحركات انتشت بالنصر الأول، وانفجرت بعد ذلك حركات مطلبية في مختلف أنحاء البلاد قام بها عمال وفئات أخرى مطالبة بتحسين أوضاعها على خلفية المشهد السياسي، غير أنها سرعان ما وصمت بأنها "مطالب فئوية"، وعلى الرغم من ابتعادها من مشهد الثورة الرئيسي في التحرير غير أن مطالبها كانت جزءًا من أهداف الثورة المرتكزة حول تحقيق العدالة الاجتماعية، كما أن هذه الحركات الاحتجاجية كانت هي الرافعة لمطالب التغيير في الفترة التي تلت فشل الإصلاح السياسي (2005-2007)، ولا شك أن أحداث المحلة 2008 كانت ثورة اجتماعية مُصغرة هي التي حفزت إيجاد حركات اجتماعية شبابية على رأسها 6 أبريل.
كان على الحركات الشبابية أن تلتقط خيط هذه المطالب وأن تضفرها في المشهد الثوري. وكان هذا موضع الخطأ الرئيسي للحركات الثورية الشبابية، افتقادها بوصلة العمل السياسي الصحيحة، واعتقادها ولو لفترات قصيرة أن الثورة قد نجحت بإسقاط مبارك ونخبته السياسية، غير أن استمرار الثورة كان يتطلب كما تشير أدبيات الحركة السياسية خلق حالة ثورية وشروط ثورية.
أصبح شباب الثورة ظاهرة، اتجهت النخب السياسية القديمة لاستغلالها واستثمارها لا لتثوير قواعدها ولكن لاحتواء هذه الحركات والمطالب التي تعبر عنها، وبالطبع ساعدت سيولة الحركات الشبابية، على ذوبان معظمها في الكيانات السياسية التقليدية، فانقسمت على نفسها بتصارع الأحزاب عليها فانشطرت حركة 6 أبريل إلى شطرين وذاب حزب العدل في أحزاب أخرى صاعدة، وساعد التنظيم الحديدي لجماعة الإخوان المسلمين وبنيته الطائفية على إبعاد خطر انشقاق شباب الجماعة الذي كان جزءًا أصيلا من حدث الثورة عنها، وبقي الانشقاق محدودًا فيها. ورأينا بعد شهور ابتذال تكوين الائتلافات التي تخطت الـ120 ائتلافًا بعضها يتكون من أفراد لا يتخطى تعدادهم أصابع اليد.
ولم تلتفت –الإئتلافات- أن الثورة حفزت بدورها معسكرًا للثورة المضادة التي بعد أن صُدمت بما جرى أخذت في ترتيب صفوفها، وفيما كانت سيولة حركات الثورة مطلوبة في مباغتتها للنظام بخلق الثورة كان تنظيمها ضرورة في مواجهة محاولة النظام للعودة واستعادة المساحات المحررة، وإعادة بناء ما تهدم من بنى السلطة القمعية ومؤسساتها.
ومن المعروف أن حسابات الثورة التي هي أقرب إلى حسابات الحرب الراديكالية تختلف عن الحسابات السياسية البراغماتية، فطيلة عامين من الثورة كانت الجبهات الأكثر تنظيمًا هي الأكثر قدرة على كسب النقاط وإحراز الأهداف، ومن هنا نجح الإسلام السياسي في إحراز المكاسب التي جاءت على حساب تضحيات الشباب، فبرلمان 2012 جاء بعد أن دفعت أحداث محمد محمود المجلس العسكري للتعجيل بالانتخابات البرلمانية التي حصد الإسلاميون مقاعدها، وكان تمثيل الشباب فيها متواضعًا للغاية، ثم أن هذه الحركات التي قادت المواجهة مع القوات المسلحة والشرطة في الشارع لم يكن لها ظهير سياسي يعبر عنها، بل وجد من يستغلها من الأطراف السياسية في إطار الصراع فيما بينها والمجلس العسكري. و كان هذا بمثابة هدرًا لدماء شهداء لا زالوا يتساقطون في كل مواجهة بين الثورة والثورة المضادة التي تمكنت من جهاز الدولة بشكل كامل.
وكانت الانتخابات الرئاسية مؤشرًا آخر على تعثر الثورة وانحسار ظاهرة شبابها، فقد تقاسم معسكر الثورة أكثر من مرشح، وكان خالد علي أقرب إلى الحالة التي عبر عنها الشباب في بداية الثورة، فهو أصغر المرشحين سنًا، وقادم من خلفية حقوقية يسارية، غير أنه حصل على عدد ضئيل من الأصوات بعد أن تفتتت أصوات الكتلة الثورية بين مرشح الإخوان وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي، وهو ما عكس في حقيقته أن التدافع أصبح على قاعدة المصالح لا تحقيق أهداف الثورة التي أصبح مرشحو الفلول يرفعون شعارها.
يبدو أننا لا زلنا في حاجة إلى النظر إلى أصل القضية كي نعيد ترتيب أوراق الحركة الشبابية، فمطالب الثورة لم تتحقق بعد، ولا يبدو أن الإسلام السياسي الحاكم سيسعى إلى تحقيقها، إذ أن تحقيقها يعني تغيير بنية الدولة التي سعى إلى وراثتها على مدار 80 عامًا. وبعد مرور عامين من الثورة، لازالت الحركات الشبابية على سيولتها غير أن كتلتها الرئيسة تم استيعابُها في جسد حركات وأحزاب سياسية أخرى وهو ما يجعل المطالبة بتوحيدها تعبيرًا عن وجهة الثورة أمرًا غير مقبول وغير مطلوب.
ومع ذلك يبقى التوجه إلى المجتمع وتغيير بنيته الثقافية وتثويرها أمرًا مُلحًا، خاصة أن هزائم الثورة جاءت باختيار شعبي وبسبب ثقافة مرتبطة بالدولة القومية والتوق نحو الاستقرار ونظرة ضيقة للمصالح السياسية. إلا أن الشباب أثبت في مواجهته مع النظام الحاكم قبل وبعد الثورة أن جذوة الثورة لم تنطفئ، خاصة أن أسبابها لم تعالج، وهو ما يجعلها عنقاء تتحين الفرصة لتولد من جديد.